ما خلقه الشعب المغربي إبان المسيرة الخضراء لم يكن قرارا وليد اللحظة، ذلك أن إرهاصاته الأولى بدأت تلوح في الأفق قبل شهور من انطلاقها، حين خرج الملك الحسن الثاني، في خطاب 20 غشت 1975، ليقول: "سندخل الصحراء، بحول الله، آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين لا نخاف"، قبل أن يتابع: "ستكون أعلام المغرب مرفوعة على جميع المباني الإدارية، والمغاربة سينعمون بالحرية والكرامة حينما ينضمون إلى إخوانهم في شمال البلاد".
قبل هذا الخطاب، بحوالي ثلاثة أسابيع، شُكلت قيادة من كبار المسؤولين المغاربة، على مستوى القاعدة العسكرية ببنجرير، للترتيب والإعداد للحدث الأضخم من نوعه، بالمغرب والعالم، خلال القرن العشرين، عبر عقد اجتماعات يومية مغلقة، في سرية تامة، ما شكل أول انتصار للمملكة، بحسب الملك الراحل الحسن الثاني الذي قال لاحقا: "من بين الانتصارات التي حققها المغرب أنه استطاع كتمان السر، لأن السر كان ذَا أهمية بالغة من الناحية الإستراتيجية، ولو قُدر لهذا السر أن يُفشى لفشلت المسيرة".
السر تقرر أن يعلن يوم 16 أكتوبر 1975، حيث دُعي مئات الصحافيين عبر العالم إلى مدينة مراكش، التي توجهت إليها الأنظار وسط حالة من الترقب، وكثرت الإشاعات، وتعددت التكهنات ما إن كان الملك سيُعلن حالة حرب عسكرية ضد اسبانيا والجزائر، خاصة وأن اليوم ذاته تزامن مع الإعلان عن رأي محكمة العدل الدولية المؤكد على أن "بين المملكة المغربية والصحراء صلات قانونية وأن الثانية كانت تدين للأولى بالولاء".
في خطاب المسيرة الخضراء، عشية اليوم ذاته، يقول الحسن الثاني: "علينا أن ننظم مسيرة خضراء من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن شرق المغرب إلى غربه كرجل واحد بنظام وانتظام لنلتحق بالصحراء لنصل الرحم مع إخواننا في الصحراء"، فتندفع الجماهير إلى الشارع، وتفتح مكاتب التسجيل أبوابها صباح يوم 17 أكتوبر للراغبين في التطوع، ليتزايد الرقم إلى مليون متطوع وتضطر المكاتب إلى رفض تسجيل المتطوعين وحصر العدد في 350 ألفا مع آلاف الشاحنات وأطنان من الزاد والتجهيزات.
يوم 21 أكتوبر كان موعد المغرب مع انطلاق الفوج الأول من المتطوعين والمتطوعات من مدينة الراشيدية، لتنطلق بعدها الحافلات والشاحنات والقطارات وسيارات الإسعاف والطائرات المحملة بالمياه والأدوية نحو الأقاليم الجنوبية، فتتحول المسيرة من فكرة إلى واقع مجسد على أرض الواقع ليشكل حدثا عالميا، ويكون لقاء مئات الآلاف من المغاربة في مراكش، ثم أكادير، فطرفاية، حيث نصبت الخيام، وسمتها الصحافة الدولية بـ"مدينة الخيام".
وحين كان الجميع عند نقطة الانطلاق وعلى أُهبة الاستعداد، أعلن الملك الحسن الثاني، في خطاب تاريخي ليلة 6 نونبر، أن "غدا تنطلق المسيرة"، لتبدأ مهرجانات الغناء والرقص وانتظار طلوع الشمس، وإعطاء الانطلاقة الرسمية للمسيرة بمشاركة وفود عربية وإفريقية وقادة الأحزاب الوطنية وشخصيات مختلفة مرددين جميعا "الله أكبر" ورافعين المصاحف والأعلام الحمراء المغربية.
بحلول الحادية عشرة صباحا، كان المتطوعون قد تجاوزوا الأسلاك الشائكة التي وضعتها اسبانيا، ولسانهم يردد "لبيك اللهم لبيك"، نداء قوي تردد على الأراضي الصحراوية واخترق أسماع الجنود الإسبان الذين ذهلوا أمام الزحف والحماس. لحظةٌ قال عنها الوزير الأول آنذاك، أحمد عصمان: "إنها لحظة فوق القدرة عن التعبير"، لتتوقف المسيرة وينتظر الشعب توجيهات الملك الذي أطل على التلفاز ليقول: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"، ويستعد المتطوعون للانسحاب والعودة إلى ديارهم.
يوم 9 نونبر كان المغاربة مع موعد آخر مع خطاب ملكي، قال فيه: "إن مسيرتنا قد أدت رسالتها، وإنها قد أدركت أهدافها وإنها ولله الحمد قد حققت ما كنا جميعا ننتظر منها، لذا علينا أن نرجع إلى منطلقنا لنعالج الأمور والمشاكل بكيفية أخرى وأساليب جديدة"، قبل أن يعلن بشكل حازم وواثق يوم 17 نونبر 1975، "إن صحراءنا رُدّت إلينا (...) وإننا في قريب غير بعيد جدا سنزور إخوانا لنا، نعانقهم ويعانقوننا، نصافحهم ويصافحوننا، نبادلهم المشاعر والأخوة والحب والمودة"، وذاك ما كان فعلا.
إرسال تعليق