في شارع فاس الكائن في حي كاليفورنيا الراقي بالدار البيضاء و بالضبط بالطريق المؤدية لمسجد السبيل، يكاد المرء لا يصدق أن مئات السيارات الرابضة على طول الشارع وفي مختلف الأزقة المتفرعة عنه، جاءت للغرض ذاته، وأن أصحابها يتوافدون إلى نفس المكان، في موعد محدد بالطبع.
يكاد يصعب على المار في الشارع المذكور، بعد صلاة العشاء من كل يوم رمضان، أن يستوعب أن شيخا مقرئا بأحد مساجد الحي هو سبب التجمع الكثيف للعربات، شيخ له من سحر جمال الصوت ما يجعل الناس يتداعون إلى مسجده، قادمين من كل أحياء الدار البيضاء، بل من العديد من المناطق المحيطة بالمدينة، كالمحمدية وبرشيد وما جاورهما.
إنه الشيخ المقرئ عبد الكبير الحديدي إمام مسجد السبيل في حي كاليفورنيا، القادم إلى الحياة ذات يوم من سنة 1963 كابن بكر وأخ أول لأربعة إخوة كلهم من حملة كتاب الله، والقادم إلى عالم القرآن حفظا وتجويدا من قبائل ركراكة في نواحي الصويرة، هاته القبائل التي كانت وما تزال تشكل منجما من حفظة كتاب الله الذين ينتشرون في كل ربوع المغرب، ولا تنافسها في ذلك إلا قبائل السراغنة و دكالة التي تولي هي الأخرى أهمية قصوى لحفظ القرآن.
و هو ابن خمس سنوات، شق الحديدي طريقه إلى أقرب "جامع" في الدوار، وهناك قضى رفقة أقرانه حوالي خمس سنوات، كانت كافية كي يستكمل عبد الكبير حفظ القرآن وهو لحظتها في ربيعه العاشر.
مباشرة بعدها انتقل إلى مدرسة "أغيسي" الموجودة لحسن الحظ في نفس المنطقة، بغية ضبط رسم القرآن، وهو ما تأتى له على يد "الشيخ المحجوب"، بعد أن قضى في مدرسته حوالي أربع سنوات، كانت السنتان الأوليان كافيتين لإنجاز المهمة، بينما ما تبقى من تلك المدة كان من أجل التأمل في المحطة المقبلة التي ستتسع لأحلام هذا الفتى "الشيضمي".
وفي عام 1984 حزم عبد الكبير حقائبه ورحل نحو الدار البيضاء ليحل ضيفا على المعهد الإسلامي لتكوين الأطر، وفيه أضاف الوافد الجديد الكثير من المعلومات إلى جعبته، وفتح له باب المنافسة من خلال اللقاءات التي كان المعهد ينظمها بين الفينة والأخرى والتي كان الفوز حليف عبد الكبير في الكثير منها، مما أشعل فتيل حلم كبير في مخيلته، بات معه يفكر في تسجيل المصحف الكريم، وتشاء الأقدار أن يكون عبد الكبير صاحب أول مسيرة قرآنية مسجلة في عهد الملك محمد السادس، التي قدمت عام 2004.
سافر الحديدي إلى المملكة العربية السعودية، مهبط القرآن ومركز علم القراءات، ولم يعد منها إلا وهو حاصل على إجازة في هذا العلم، صقل بها حفظه للقرآن الكريم وبات معها مؤهلا، أكثر من أي وقت مضى، للإمامة والخطابة والترتيل والتجويد.
في رمضان عام 1996 أمّ الحديدي المصلين في أحد مساجد الحي المحمدي، وفي السنة الموالية حل ضيفا على مسجد السبيل في حي المسيرة قبل أن يغادره إلى مدينة سطات التي قضى بها ما يقرب من عشر سنوات، قبل أن يعود و بقوة إلى مسجد السبيل في حي كاليفورنيا الراقي.
بعد عودته من مدينة سطات إلى البيضاء وخلال العام الأول من إمامته للناس في مسجد السبيل الذي لازال به إلى يوم الناس هذا اصيب الشيخ عبد الكبير الحديد بمرض في الحنجرة ألزمه الفراش و كان لزاما عليه أن يجري عملية جراحية حيث قام أحد الدكاترة المشهود لهم بالكفاءة بإجراء العملية، التي لم تكلل بالنجاح ، فقد أنذاك الشيخ الحديدي صوته و لكنه لم يفقد إيمانه و يقينه بالمولى جل و علا القادر برحمته و كرمه و معجزاته أن يشفيه من السقم.
لم يعد بإمكان الحديدي نطق و لو كلمة واحدة ، اسودت الدنيا حينها في عينيه وساد كثير من الحزن وسط الأسرة والعائلة ، وذات ليلة و هو يقرأ حديثا شريفا يقول: «عليكم بالشفاءين القرآن والعسل» عقد العزم على اللجوء كليا إلى الله، فحدث أن تابع ليلا شرب العسل وقراءة القرآن إلى أن خرج من فمه ذات جوف ليل كلمة الله أكبر ، نعم، أعاد الله إليه نعمة الكلام وقراءة القرآن بعد أن استسلم العلم وعجز الطب عن ذلك ، هكذا يحكي الشيخ الحديدي في إحدى حواراته الصحفية.
إرسال تعليق