بقلم: أنس بزيط
أ.
مقدمة
الحمد لله جلَّ في عليائه، نحمدُه سبحانه على جزيل عطائه، ونشكره على أفضاله ونعمائه، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد
خاتمِ أنبيائه، وعلى آله وصحبه وجميع نسائه؛ فإنهم خِيرة أوليائه، وعلى مَن اقتفى أثرَه
واهتدى بهَدْيه إلى يوم لقائه.
ب.
تفسير وبيان
المزمل هو المتغطي بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين أكرمه الله برسالته، وابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه، فرأى أمرا
لم ير مثله، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون، فاعتراه في ابتداء ذلك
انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام، فأتى إلى أهله، فقال: " زملوني زملوني
" وفرائصه ترتعد، ثم جاءه جبريل فقال: " اقرأ " فقال: " ما أنا
بقارئ " فغطاه حتى بلغ منه الجهد، وهو يعالجه على القراءة، فقرأ صلى الله
عليه وسلم، ثم ألقى الله عليه الثبات، وتابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه
أحد من المرسلين.
فسبحان الله، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها، ولهذا خاطبه الله
بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره.
فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثم أمره بالصبر على أذية أعدائه ، ثم
أمره بالصدع بأمره، وإعلان دعوتهم إلى الله، فأمره هنا بأشرف العبادات، وهي
الصلاة، وتأكيد أوقاتها، وهو قيام الليل.
ومن رحمته تعالى، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال تعالى {
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا }، ثم قدر ذلك فقال: {
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ } أي من النصف {
قَلِيلًا } بأن يكون الثلث ونحوه، {
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي على النصف، فيكون الثلثين ونحوها،
في قوله تعالى { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد
بآياته، والتهيأ والاستعداد التام له، قال الله عز وجل {
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } أي نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه،
وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه، ثم ذكر
الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال جل جلاله: {
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } أي الصلاة فيه بعد النوم {
هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } أي أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب
واللسان، وثقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه
لا يحصل به هذا المقصود، ولهذا قال تعالى: {
إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا } أي ترددا على حوائجك ومعاشك، ووجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام،
وفي قوله تعالى { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } شامل لأنواع الذكر كلها { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلًا } أي انقطع إلى الله تعالى، فإن
الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة
الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه، {
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب
كلها، فهو تعالى رب المشارق والمغارب، وما يكون فيها من الأنوار، وما هي مصلحة له
من العالم العلوي والسفلي، فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره، {
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي
يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم، والإجلال والتكريم، لهذا قال تعالى {
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } أي حافظا ومدبرا لأمورك كلها.
ت. الأهداف:
1.
التسلح بالصبر الجميل لمواجهة العقبات التي تعترضه في
حياته
إن الصبر الجميل هو صبر بلا ضجر، بلا قلق، بلا ضيق، بلا
اعتراض، صبر باللسان والقلب معاً، وليس كما نرى في بعض الناس، ترى لسانه راضياً ولكن
قلبه يقول لماذا يا رب؟
فمن اتفق لسانه مع قلبه فهو الصابر صبراً
جميلاً وترى في وجهه علامات الرضا، بلا عبوس، وكأنه لم يصب بمصيبة وهذا لا يتنافى مع
تألم القلب ودموع العين فإننا بشر.
وهناك معنى آخر للصبر الجميل، وهو الصبر الإيجابي والمعنى
منه مثلاً: شاب لا يستطيع الزواج، فيصبر عن الحرام ويغض بصره، ولكنه لا يعمل، فهذا
ليس صبراً جميلاً، بل هو صبر سلبي فإن الصبر الجميل أن تصبر وتبذل الجهد وتكون إيجابياً
ولا تجلس في بيتك وتقول إني صابر، ولكن تحرك واعمل واصبر والصبر يساوي الجنة، وروى
مسلم أن امرأة كانت تصرع وتتكشف،
طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فقال لها صلى الله عليه وسلم:(اصبري
ولك الجنة) فصبرت فكانت لها الجنة.
وعن أم سلمة عند وفاة زوجها، استقبلت الوفاة بهذا الدعاء(
إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأبدلني خيراً منها) فقالت في نفسها
إني أعاض خيراً من أبي سلمة، واستجاب الله لدعائها وكانت المفاجأة أن خطبها النبي صلى
الله عليه وسلم لتكون أماً للمؤمنين وزوجة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال أحد الحكماء ابتلي بمصيبة فدخل عليه إخوانه يعزونه
في المصاب فقال: إني عملت دواء من ستة أخلاط، قالوا: ما هي؟ قال: الخلط الأول الثقة
بالله، والثاني علمي بأن كل مقدور كائن، والثالث الصبر خير ما استعمله الممتحنون،
والرابع إن لم أصبر أنا فأي شيء اعمل؟ ولم أكن أعين على نفسي بالجزع، والخامس قد يمكن
أن أكون في شر مما أنا فيه، والسادس
من ساعة إلى ساعة فرج.
2.
فضل قيام الليل
لقد تضافرت وتكاملت نصوص الوحي من كتاب الله سبحانه وتعالى،
وكذلك أحاديث رسوله - صلّى الله عليه وسلّم - و التي تتحدّث عن فضل قيام الليل، ومن
الأحاديث التي وردت في ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم:" أفضل الصّيام بعد رمضان شهر الله المحرّم، وأفضل الصّلاة بعد الفريضة
صلاة الليل "، وكذلك ما رواه الترمذي
وغيره عن عبد الله بن سلام رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" أيّها النّاس أفشوا السّلام،
وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل، والنّاس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام ".
وقال صلّى الله عليه وسلّم:" يا عبد الله لا تكن مثل
فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل "، متفق عليه، وقال صلّى الله عليه وسلّم:" نعم الرّجل عبد الله لو
كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً "، متفق عليه.
وقد قام الله سبحانه وتعالى بمدح أهل قيام الليل، ومن
يقومون عليه، والقانتين فيه، وقد أثنى عليهم، ووعدهم على ذلك أعظم موعدة ، فقال سبحانه
:" تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً
وممّا رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون "، السجدة/16-17.
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن صفوة عباده، وأنّهم
قد استحقوا الجنّة، وذلك لأنّ من صفاتهم أنّهم:" كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون
"، الذاريات/17-18، وقد
كان النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - يرغّب المسلمين في قيام الليل ولو بقدر حلب النّاقة،
بمعنى في وقت يساوي الوقت الذي تحلب فيه النّاقة، وأقلّ قيام الليل ركعة يصليها المسلم
وتراً.، كما يعتبر قيام الليل دأب الصّالحين وهديهم، ومن الأفضل أن يختم المسلم قيام
الليل بالوتر، وذلك امتثالاً لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم:" اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً "، رواه البخاري ومسلم.
3.
التمثل في الحياة والدعوة إلى الله تعالى بصدق
فأمّا من أحب الله عز وجل وأراد التقرب إليه فعليه أن
يبدأ بالطاعة من دون عصيان، فيلتزم بما أمر من صلاة وزكاة وصيام وفرائض أخرى شرعها
ويبتعد عمّا نهى عنه من كبائر وشهواتٍ محرمات، ولما كان من منزلة لسيد الخلق محمد عليه
أفضل الصلاة وأتم السلام عند ذي العرش والجلال فإنّ حبه واتباع سنته وتعاليمه هو الوسيلة
الأفضل للتودد إليه فهو حبيب الرحمن فكما قال عز وجل في كتابه الحكيم:" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر
لكم ذنوبكم والله غفور رحيم".
ث.
خاتمة
وأمّا في الختام فلا أجمل من الختام بالحديث القدسي عن
محبة الله والتقرب إليه وعن أولياء الله الصالحين فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إِنَّ
اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ
إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ
عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ
كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ
وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ
تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".
لا بد للمؤمن من العمل على تحصيل مجموع حسن من خصلة الذكر، أي ذكر الله
بالكلمة الطيبة وترتيلا للقرآن الكريم، ودعاء بآدابه، والمحافظة على الصلاة،
وتفكرا في تصرف الخالق سبحانه في كونه، وذكرا للموت، كل ذلك استعداد ليوم تختل فيه
الموازين المعهودة في الحياة الدنيا، وتنتصب فيه موازين الحق.
إرسال تعليق