تتقدم الكاميرا في أدغال استوائية غامضة وخطرة على ضفاف نهر الكونغو لتكشف بطلا أشقر له جسد رشيق قوي يتمناه كل فرد في أحلام اليقظة والنوم... إنه طرازان الذي جاء من لندن لصلة الرحم مع حنان الغوريلا، وفاء لصديق الطفولة، حتى لو كان قردا... تحلق الكاميرا على فضاءات واسعة وتقدم صورا مفتوحة على الأفق، تتوالى لحظات القتال الضارية بضجيجها ولحظات الهدوء الرومانسية بصمتها بتناوب مؤثر يريح المتفرج الذي يتابع القصة مع تناوب التوتر والاسترخاء.
وماذا بعد؟
مهما كانت قصص الأفلام جيدة فإنها تفقد الكثير من جاذبيتها وتأثيرها إن فشلت في قراءة اللحظة، وهو ما تمكن منه الفيلم الذي يموقع رحلة طرازان في إطار صراع القوى الأوروبية لنهب إفريقيا، وقد انعقد مؤتمر لتقسيمها ببرلين سنة 1884. نتيجة لذلك ذهب قائد الحملة البلجيكية لاحتلال الكونغو إلى لندن ليطلب من اللورد جون كلايتن (طارزان) مرافقته باسم ملك بلجيكا.. يوافق لكن لأسباب خاصة.
التقط الفيلم روح العالم في 1884، كما وصفه إريك هوبزباوم في كتابه "عصر رأس المال" بأنه أوج الإمبريالية، حين تحالف العسكر ورجال الأبناك لنهب إفريقيا، توصلهم السفن للشواطئ وتسمح لهم الأنهار والقطارات بالتوغل...يتقدم قائد الحملة البلجيكية بالصليب في يد والبندقية في يد أخرى.. يرد على رمح بألف رصاصة.. نار ودم من أجل الماس والعاج والعبيد.. وقائد الحملة مرتاح ويتقدم بلا مقاومة لأنه في مواجهة زعيم إفريقي (دجيمون هونسو) يفكر في الثأر لابنه أكثر من تفكيره في إنقاذ شعبه.
ولإغناء القصة وضع الأمريكيون ملحهم في القدر لتصير للفيلم صلة بالجمهور الأمريكي.. يقدم الفيلم مبعوثا أمريكيا يحمل اسم جورج واشنطن ويليامز (صامويل جاكسون)، مهمته التنديد بجرائم ملك بلجيكا في الكونغو. هكذا تمت موقعة القصة في سياق تاريخي، فصارت لطرازان صلة بأمريكا وباللحظة، إذ يترأس أسود أمريكا وتتقاتل القوى العالمية للهيمنة على إفريقيا...
وسبق لطرازان أن كان ضد النازية في فيلم "انتصار طارزان" 1943 للمخرج فلهلم تيل Wilhelm Thiele.
لزيادة الصلة يشعر المبعوث الأمريكي الذي شارك في حرب الانفصال بالخجل مما فعله بالهنود الحمر ويعترف: "ما فعلناه بالهنود الحمر لا يقل عما يفعله البلجيكيون بالأفارقة".. هكذا يتوافق الأمريكي وطرازان في المهمة التحريرية.
طرازان أسطورة شعبية متفائلة تضمن نهايات سعيدة وعمرها قرن، ظهرت نصا ورسوما متحركة وأفلاما. وقد هضمت السينما كل ذلك، وصار اسم طرازان لقبا؛ وهو طفل يتيم عاشق متخلى عنه يقاوم الظلم ويعاقب الظالمين؛ حتى إنه لقب شخصية المعلم صاحب المقهى في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ.
طرازان محفوظ في صف اللص، وليس في صف الكلاب، لذلك ساعده سعيد مهران ونبهه إلى وجود المخبرين.. إنه شخصية إيجابية في الوعي الشعبي.
يعود طرازان إلى إفريقيا، حيث تربى مع القردة تاركا وسطه الأرستقراطي. لاحظوا التمييز من فضلكم: أرستقراطي لا بورجوازي.
تنبع عظمة طرازان من ترفعه عن الحسابات الباردة لبرجوازي صغير مثلك. لا مكان لقيم السوق في عالم طرازان. في رومانسية الغابة يتعاقد طرازان مع القردة لصد العدو دون خيانات.. يفضل صحبة الحيوانات على صحبة أعضاء البرلمان الانجليزي...
في الغابة يستعيد طرازان السعادة البدائية التي سادت على الأرض قبل أن يصيب الشر البشر. كانت خيرات الطبيعة أكثر من البشر.. والآن صارت خيرات الطبيعة أقل من البشر.
يتم في أفلام طرازان إعلاء شأن الإنسان البدائي.. طرازان نموذج للجسد الناجح في الطبيعة، يملك الرشاقة والقوة ويطرح قدوة بعيدة لأصحاب الأجساد المترهلة.. يربط الوعي الشعبي بين الرشاقة والسمو الخلقي. وترتبط البدائية بالبراءة والسعادة قبل التحضر. لا يمكن اتهام هوليود بالرجعية، فحتى ماركس بنى تصوره للشيوعية على استعادة مجتمع ما قبل ظهور الملكية والطبقية...
الحنين إلى البدائية الذهبية سلفية أخرى.. حين تقدم السينما البدائية الجميلة لا ينظر للعودة إلى الماضي كرجعية. في فيلم "الطفل المتوحش"، وهو صيغة فرانسو تروفو التقدمية لطرازان، جعل الطفل بشعا قبل أن تمسه الحضارة.. الأفضل أمامنا لا خلفنا.
يقدم طرازان نموذجا تطبيقيا لتاريخ السينما من خلال تطور كتابة السيناريو التقنية والوعي الفني للممثلين والمخرجين وذوق الجمهور. في الأفلام السابقة من سلسلة طرازان نرى طفلا يعيش في الغابة، رباه قرد وله حيوانات صديقة وعدوة، بعدما غرقت سفينة والده المدرس الانجليزي. في الفيلم استثمار بذرة في القصة الأصلية، (بيتش) لأن طرازان من أصل أرستقراطي، لذا بدأ الفيلم من لندن.
وتوجد تشابهات بصرية كثيرة بين أول فيلم في 1918 (طرازان عند القردة)، من إخراج سكوت سيدني، وفيلم أسطوة طرازان 2016 من إخراج دافييد يات. وقد تم استبدال تجار العبيد العرب بالبلجيكيين؛ كما تغير الإطار المشهدي الجغرافي لإفريقيا.. لم تعد تعني القردة بل المواد الأولية الثمينة. وبدل كاميرا ثابتة وإطار صورة ضيق في الفيلم القديم جرى التصوير بكاميرا تصعد لاكتشاف الطبيعة البكر؛ حتى إن المتفرج يتمنى لو كان هناك، وهو ما توفره له شاشة ضخمة لها عرض القاعة وعلوها؛ لذا تنمحي الفواصل بين الواقع والخيال، ويشعر المتفرج وكأنه طرف في ما يجري.
وقد قدم الممثل السويدي ألكسندر سكارسكارد، والممثلة الأسترالية مارغو روبي - التي لمعت في فيلم ذئب وال ستريت لمارتن سكورسيزي – ثنائيا عاشقا ساحرا للمتفرجين، لن يقل تأثيره عن تأثير الثنائي جاك وروز (كابريو وويتسلي) في فيلم تيتانيك. وهذا نتيجة أن المخرج دافيد يات يعرف إدارة الكاميرا، وأيضا أحاسيس المتفرجين، وهو الذي حقق مجده بأفلام هاري بوتر.. ويظهر من أسلوبه أنه مهتم بسرد حكايات هجينة، فيها واقعي وعجائبي، شخصيات بشرية وحيوانية وأرواح شريرة... وختم الفيلم بمشهد مثير لحيوانات ثورية تقتحم المعسكر وتسحقه دفعة واحدة...
هكذا يستمر تواجد الحيوان في الفن، في كليلة دمنة والحكايات الشعبية وفي أفلام هوليود، وهذه الخلطة الهجينة ترضي الجمهور... لذلك جاء متفرجون من كل الأعمار، من الثانية عشرة حتى ستين سنة.. وزرع المخرج دافيد يات بذرة أخرى في نهاية الفيلم، وبذلك سيضمن بقاء الأسطورة لقرن آخر.
إرسال تعليق