pregnancy

0
من خلال النقاش مع أحد إخواننا المنحدرين من الصحراء حول الخريطة البشرية لتواجد الصحراويين في مركز القرار السياسي ببلادنا، خصوصا داخل دواليب و"دهاليز" التدبير الحزبي التقريري على المستوى المركزي، استنتجت خلاصة مستفزة للنقاش الحقيقي والجدي حول دور الأحزاب في تدعيم قدراتها لتفعيل الانتماء الحقيقي للمكون الصحراوي في المشاركة الفعلية في الإنتاج السياسي، في ظل التواجد المحدود جدا، وإن لم يكن محتشما، للوجوه الصحراوية المثقفة في المشهد العام ببلادنا بشكل لا يتوافق مع تطلعات الفئات الشابة الجديدة.
منذ انعتاق البلاد من الحماية الفرنسية ومنذ المسيرة الخضراء واسترجاع أقاليمنا الجنوبية، توالت على المشهد السياسي الحزبي نخب معينة استأثرت واستفردت بالقرار داخل مختلف التنظيمات السياسية من خلال خطاطات تنظيمية لم يكن المخزن بعيدا عن هندستها وتوجيهها إلى حدود معينة.
منطق الأعيان الاجتماعيين والاقتصاديين كان دائما حاضرا في صياغة مختلف الخرائط البشرية القيادية للأحزاب في الجهات الشمالية للبلاد، الشيء الذي سبب جمودا ملحوظا في حركية النخب وتعطيلا لتداول القيادة فيما بينها، وغيابا للبعد الترابي والعمري والنوعي في صناعة نخب جديدة، بإدماج فئة الشباب والنساء، خصوصا أولئك المنحدرون من صحرائنا، الشيء الذي سبب أيضا خللا في قنوات التواصل بين الجنوب والشمال على مستوى التلاقح الثقافي الحقيقي وعلى مستوى التطعيم والتخصيب بين مختلف أجذاع المكونات الثقافية المغربية المتنوعة.
نخب بجميع أنواعها الثقافية، السياسية والاقتصادية هي الروح والقاطرة التي تدفع الجماعة نحو التنمية والاستقرار والانفتاح، من خلال ما تملكه من قدرات ومهارات خاصة، طبيعية أو مكتسبة، إذا ما تم إعطاؤها الفرصة وفق جرعات متدرجة معقلنة ومناسبة للظرفية العامة، وإذا ما أذن لها بالتوغل وسط مختلف أنسجة النسق الاجتماعي والسياسي لإبراز كفاءاتها في إيجاد المخارج لمختلف الإشكالات والعقد.
عندما اقترح المغرب حلا توافقيا للنزاع المفتعل حول الصحراء، فإنه لا شك وضع الأسس لنظام سياسي جديد، وأرسى منظومة معيارية تدبيرية ومؤسساتية جديدة، لتكون لبنته الرئيسية المؤسسات السياسية التي ستقود البناء الجنوبي الجديد، لتصبح يوما ما نموذجا يمكن تفعيله في المغرب ككل على غرار بعض التجارب الدولية، على رأسها المقاطعات الألمانية (اللاندر)، والتي شكلت حلما للملك الراحل الحسن الثاني كشفه للعموم كلما دعت المناسبة ليتناول موضوع الجهوية.
غير أن هذا البناء، كما أي بناء اجتماعي متشعب، يحتاج إلى وقود بشري لإقلاعه في الوجهة الصحيحة وبالسرعة المطلوبة. هذا الوقود لن يكون سوى النخب السياسية المكونة والمؤهلة على التدبير الذاتي بعيدا عن منطق القبيلة وبعيدا أيضا عن الشخصنة ومنطق الأعيان، هذا المنطق الذي من شأنه أن يحدث خللا وربما صراعا غير صحي ومثبط لأي مشاريع للإقلاع والانسجام، والذي قد تنتج عنه أيضا مشاكل لا حصر لها أخطر من منطق الانفصال نفسه. لذلك لا مفر من وضع تصور جدي وواقعي منسجم مع التطورات الحالية في التركيبة البشرية لمواطني الجنوب، تصور مؤسس على إستراتيجية استشرافية توقعية للاحتياجات المستقبلية للموارد البشرية المقررة، ومتعددة المنابع والمخارج لتكوين نخب جديدة متشبعة بفكر الانتماء للوطن وبالرغبة في التعاطي مع الدولة كمؤسسة من شأنها أن تحقق تطلعات جميع الفئات عن طريق ممارسة المواطنة الحقيقية.
إن النخب وإن كان البعض ينظر إليها كأقليات أو "طوائف" لا تؤمن إلا بالجماعة المذهبية أو الفئوية أو القبلية التي تنتمي إليها، الشيء الذي يشكل خطرا على الوحدة، فإن الدولة من خلال ضمانها مشاركة الجميع في التدبير العمومي وفي بلورة السياسات وفي التمتع بالحقوق بشكل تام وفعلي، بإمكانها أن تضبط الإيقاعات التدافعية بشكل متوازن بما يخدم التناغم والتنوع الإيجابي المحفز على التسابق والإنتاج المثمر.
من خلال تفحص مبادرة الحكم الذاتي في جهة الصحراء، يتبين حجم الاختصاصات والمؤسسات المسندة لسكان الجهة لتدبير أنفسهم داخل الثوابت الوطنية. اقترح المغرب خطاطة مؤسساتية تشبه إلى حد بعيد النظم التي تبنى عليها الدول، من قبيل إحداث رئاسة لحكومة الجهة وبرلمان جهوي منتخب من قبل قبائل الصحراء ومحاكم متنوعة، إضافة إلى اختصاصات ذاتية مستقلة تشمل جميع القطاعات العمومية بما في ذلك الشرطة والأمن الداخلي، باستثناء الجانب السيادي الخارجي للدولة وكذلك الجانب الديني والرمزي، مع بقاء الارتباط العضوي مع المؤسسات الوطنية واعتبار رئيس حكومة الجهة ممثلا للدولة المغربية هناك.
من الملاحظات التي قد تثير الاستغراب للوهلة الأولى تنصيص المبادرة على إحداث برلمان جهوي منتخب من قبل القبائل، الشيء الذي يمكن تفسيره بكون المغرب لا يرغب في تصادمات بعدية بينها حول احتكار المؤسسات، وتفسيره أيضا بكونه خطوة أولى نحو إرساء قواعد جديدة مع تطور الحكم الذاتي مبنية على الهوية الوطنية، الكفاءة والقدرة على إدارة الشأن العام، وليس على حصيص قبلي أو على هوية فرعية.
إن المجتمع القبلي سريع الانغلاق على نفسه كلما مست مصالحه أو امتيازاته من قبل الدولة المركزية أو من قبل قبيلة أخرى، الشيء الذي يفسر التعاطي الخاص الذي أولاه السلاطين المتعاقبون على حكم المغرب للصحراء. وغالبا ما تجنح القبيلة إلى استعمال جميع الوسائل للدفاع عن مصالحها في حالة ما إذا أحست بعدم إصدار ضمانات الثقة الكافية من طرف شركائها.
وفي فضائنا الثقافي والجغرافي نفسه، هناك عدة أمثلة لاستعصاء القبيلة على منطق الدولة واستعصاء تدبير الدولة على القبيلة غير المهيأ أبناؤها لقيادة المؤسسات الحديثة. أمامنا المثال الليبي الذي لم يستطع أبناء قبائل ليبيا الذين لم يوفقوا في فهم عمق الانتماء لدولة موحدة إلا بعد سجالات بين أفواه البنادق والمدافع، لم يستطيعوا التوافق على شكل الدولة أو طرق قيادتها. ثم هناك النموذج اليمني ذو النزعة القبلية ذات الانتماء المذهبي. هذه بعض الأمثلة التي تؤكد على ضرورة تهييء نخب صحراوية للتسيير الذاتي المستقبلي ذات قناعات وطنية وذات ثقافة منفتحة على الأدوات الحديثة لإدارة السلطة والدولة.
كل هذا يثير التساؤل عن تحضيرات الدولة والأحزاب بصفة خاصة لإعداد النخب التي بإمكانها الشروع في بناء هذا التنظيم الجهوي الكبير المثقل بالمؤسسات والمرافق.
هل فعلا رسمت الأحزاب منذ الاستقلال خططا لتدعيم النخب الصحراوية بشكل فعلي وتشاركي في القرار الحزبي والعمومي بعيدا عن منطق التأثيث الشكلي الذي غالبا ما يجسد باللباس الحساني في المناسبات الحزبية؟
هل فعلا خرجت الأحزاب من منطق البحث عن كائنات انتخابية لا يهم معيار الكفاءة والتجديد فيها على غرار باقي جهات المملكة؟
إن للصحراء خصوصية كبيرة في بناء الدولة المغربية القوية والموحدة، لذلك يتعين الاهتمام بشكل عميق في إعداد نخب صحراوية بعيدا عن منطق العائلة أو القبلية، نخب لا تحس بالغبن في ممارسة السياسة في مراكز القرار الحزبي وغير حاملة لعدوى الانشقاقات والتزكيات في المناصب بناء على الولاءات الشخصية، نخب مواطنة على أيديها يعرف أبناء الشمال الثقافة الحسانية وقيم المجتمع الصحراوي الغني.
إن كل إقصاء أو تهميش للنخب المتحمسة للمشاركة في بناء كبير يضم الجميع، وإن كل تدبير خاطئ لمعابر ولوج الصحراويين المؤمنين بالوطن إلى واجهة الفعل السياسي الحقيقي، قد يخلق ثقافة نفسية ناقمة فاشلة في تدبير مرحلة الحكم الذاتي إذا ما فوجئنا يوما ما بقبوله من طرف خصوم الوحدة الترابية، الشيء الذي يحتم على الأحزاب السياسية مراجعة تصوراتها بشأن نخبها، وتحديدا تلك المنحدرة من الصحراء.

إرسال تعليق

 
Top