حين أدْعُو لإعادة النَّظَر في محتوياتِ ومناهج تدريس مادة «التربية الإسلامية» في المدارس المغربية، وخصوصاً في مراحل التعليم الأوَّلِي أو الابتدائي، لِما في هذه المحتويات والمناهج من مشاكلَ كبيرةٍ، تتعلَّق بِشَحْن التلاميذ بأمُور بعيدة عن عُمُرُهِم، وعن عقولهم، وعن طبيعة المُهِمَّة الأولى التي من أجلها ذهبوا إلى المدرسة أوَّل مرَّة، اتُّهِمْتُ بِشَتَّى النُّعوتِ والصِّفات التي كان جَوْهُرُها التكفير، والمَسّ بالدِّين، وأيضاً تجريدي من كُلّ ما له علاقة بالمعرفة وبالشِّعر، وثمَّة مَنِ الْتَمَس من المجلس العلمي يُحَرِّضُه على تَجْريِمي وتكفيري.
حتَّى بعض الذين رَدُّوا على ما كَتَبْتُه، لم يخرجوا عن هذا السِّياق التَّحْرِيضي المُتَشَنِّج، الذي يَفْتَقِد الحدَّ الأدْنَى من المعرفة، أوَّلاً، بما أكْتُبُه وما أقوله وأُناقِشُه، وثانياً، بطبيعة ما تَقْتَضِيه هذه المراحل الأولى من اهتمامٍ بتعليم الأطفال، الكتابة والقراءة، وضبط اللُّغَة التي بها يقرأون ويكتبون، والتي ينبغي أن يَحْسِمُوا أمْرَهُم فيها، مع غيرها من اللُّغات التي يدرسُونَها، وأعْنِي اللغة الثَّانية، التي تكون في متناول يَدِهِم، في مبادِئِها الأساسية، قبل الانتقال إلى المرحلة الإعدادية، ناهيك عن توسيع مدارِكِهم بالطبيعة، وبأسماء النباتاتِ والحيوانات والطُّيور والأسماك والحِيتان، والأزهار والأشجار التي هي جزء من مُحيطهم الذي يعيشون ويَحْيَوْنَ فيه، وكذلك الألوان، وغيرها من المُسَمَّيَاتِ التي لا يعرفُها حتَّى الكبار ممن مَرُّوا من هذا التعليم، والتي تَسْمَح بمعرفة التلميذ باللُّغَةِ، ليس في عُمومياتِها، وتَهْويماتِها التجريدية المُطْلَقَة، التي هي مرحلة تالية، لا يمكن بلوغُها دون المعرفة بهذه الجزئياتِ الهامَّة، التي هي اليوم، بين ما يُساعِد على تَلْيين اللِّسانِ، وعلى تَسْهِيل المعرفة باللُّغَة، في مادِيَتِها، وفي ما هو موجود وكائِنٌ في الواقع، لا في ما هو غَيْبِيّ بعيد عن عقول التلاميذ، وعن تَمَثُّلاتِهِم، التي ليست في حاجةٍ، في هذا العُمُر بالذَّات، لا إلى الجَنَّة، ولا إلى النَّار، أو التَّهْوِيل الذي لا يُفِيد سوى الوَعِيدِ والتَّرْهِيبِ، وحَشْر هذه العَقُول الصغيرة، في ما لم تَبْلُغْه بَعْد، سواء تعلَّق الأمرُ بالدِّين، أو بالعلم، أو حتَّى الخيال.
هذا الذي كُنْتُ ذَهَبْتُ إليه، وغيره، مما يمكن العودة إليه في مقالٍ سابِقٍ، هو دعوة لإصلاح التعليم الديني في المغرب، وَوَضْع الأطفال المُقْبِلين على الحياة، في سياق ما تفرضُه المدرسة، في مفهومها الحديث، من تعليمٍ، وتكوِينٍ، ومَعْرِفَة المُتَعَلِّم بأُسُس اللُّغاتِ التي سيَسْتَعْمِلُها في مراحِل تعلُّمِه اللاَّحِقَة، وما تحمله هذه اللُّغات، في طَيَّاتِها من معارف ملموسَة، قبل نَقْلِه إلى ما هو مُجرَّد، بعيدٍ عن مُدْرَكاتِه، أو عن دماغِه بالأحرى. فاللَّعِب، أو التَّعْليم باللَّعِب، ولا ينبغي أخْذ اللِّعِب هنا بالمعنى السطحيّ الساذَج، هو أحد أهم ما يُساعِد التلميذ في هذا العُمُر بالذات، على الاسْتيعاب بسرعة فائِقَة، وعلى قَبُول المحيط الجديد الذي ينخرط فيه. لكن هذا يفرض، تَحقُّق عناصر أساسية:
أولاً: الوسائل السمعية البصرية، التي تُتِيح تعليم اللغة، دون رَبْطِها بالقواعد النحوية المُعَقَّدة، التي يكون فيها الحفظ هو الهدف، وهذا في ذاته، يزيد تعقيد علاقة التلميذ باللغة، وهو ما يَحْدُث في المدرسة منذ زمن بعيدٍ، دون نتيجة، خصوصاً حين يكون الهدف هو ضبط اللغة، في نحوها وإملائها وتركيبها. فاللُّغَة، سابِقَة في سَماعِها، على القاعدة، ثم إنَّ القاعدة، كما يقول الدكتور تمَّام حسَّان، جاءت أساساً لحفظ النّص القرآني، وإبْعاده عن اللَّحْن، ولم تَأْتِ لوصف ما يجري في اللغة، في تداوُلِها.
تعلُّم العربية، دون وسائل حديثة، وفي غياب معاجم مُتَخَصِّصَة، خاصَّة بِكُل مستوًى على حِدَة، وغياب توظيف واستعمال وسائل الإيضاح، والخرائط، والصُّوَر، والوسائل السمعية البصرية، واستغلال الإمكانات الباهِرَة التي تُتِيحُها الوسائط الحديثة للتواصُل، لن يكون مُجْدِياً في حلِّ مُعضلاتِ اللِّسان، أو مُعْضِلات اللغة بالأحرى.
ثانياً: وَضْع المُتَعلِّم في سياق مُحيطه، وفي سياق الأشياء التي يسمعُها ويراها، أو يَحْتاج لِتَمَثُّلِها، ووَصْفِها، والحديث عنها، أو قَوْلِها. وهذا يقتضي الخُروج بالتلميذ من فُصول الدراسة، إلى الشَّاطِيء، والغابة، والجبل، والحديقة، والحَقْل، وإلى المعامل والمصانع، والمتاحف، والمعارض المُختَلِفَة، التي تكون مختبراتٍ للمعرفة والتَّعلُّم، أو ُُفصول للدراسة مفتوحة على السَّماء، وأيضاً، إنشاء مكتباتٍ وسائطية في المؤسَّسات التعليمية، تكون جزءاً من هذه الوسائل التعليمية، وجزءاً من التكوين العام للتلميذ، ومن فُروضه واختباراته، لا فضاءاتٍ مهجورة، أو موجودة في المدرسة، دون طائلٍ، أو مَحْشَوُّة بمراجع، وكُتُب، لا علاقة لها بما يحتاجه التلاميذ.
ثالثاً: الحِرْص، الشديد، على تكوين المُعلِّمين، ليس في معرفتهم باللُّغة التي يُدَرِّسُونَها، بل بهذه المُحْتَوَياتِ التي تسمح بوصول اللغة إلى التلميذ دون عَناءٍ أو عَنَتٍ. ولعلَّ دوْرَ المعلم، في كُل هذا، هو أخْطَر الأدوار، وأكثرها أهمِّيَةً، لأنَّه هو الشخص الذي يكون على صلة بالتلميذ. فاقتراب المعلِّم من التلميذ، ومن رغباتِه، كفيل بِتَمْتِينِ علاقة التلميذ بالمدرسة، وبما هو مُقْبِلٌ عليه من تَعلُّماتٍ ومعارف، وبالتالي، فعلاقة التلميذ بالمدرسة، رهين بهذا الشَّخص الذي يمكنه أن يكون حاسِماً في هذه العلاقة.
ليس التكوين الجامعي، هو ما يُفيد، فقط، في الدور التربوي للمعلم، بل إنَّ ثقافة المُعلِّمِين، في إطارها الموسوعي النِّسْبِيّ، والاستعانة بالمعاجم، وبالأنسكلوبيديات الحديثة، وعلاقته بما يطرأ في مجال الثقافة والفن، وصلته بالبرامج الاستطلاعية التي تُفيد في معرفة البحار والمُحيطات، والجغرافيات المختلفة، في عمومها، طبعاً، أي في المعرفة الشمولية، التي تُؤَهِّل المُعلِّم لوضع التلميذ في طريق الاكْتِشاف، وإشباع بعض فُضولِه، بل إنَّ التكوين التربوي، وعلاقة المعلم بالآباء، ووُجود مُؤَطِّرين تربويين يشرفون على المُتابعة والمُراقبة، هو ما يمكنه أن يَحُلّ بعض مُعْضِلاتِ هذا الوضع الكارثيّ الذي تعيشه مدارسُنا. فهل يُعْقَل أن يقضي التلميذ خمس أو ست سنوات في تَعلُّم اللغة والحساب، ويخرُج منها مليئاً بالكُسُور والأعطاب، فلا هُو تعلَّم اللغة في نحوها وصَرْفِها وتركيبها، ولا هو تعلَّم الحِساب في جَمْعِه وضَرْبِه وَطَرْحِه، ولا هو ألمَّ ببعض مبادِيء اللغة الثانية التي هو مُقْبِل على المعرفة بها، وبما سَيَدْرُسُه بها من معارف وعلوم.
حين نَفْتَقِدُ إلى كُل هذه الأمور، وغيرها مما يمكن توظيفُه في تَمْكِين التلاميذ من الخبرات والمعارف، التي تُؤَهِّلُهُم لِمُواجَهة النصوص، والعلوم، ولِمُواجَهَة الحياة، بما تَحْفَل به من مُعطياتٍ، ومن نفاصيل، فكيف نَغْضَب، إذا دَعَا بعضنا إلى إعطاء الأهمية للغة والحساب، ولِما يُمَتِّن تكوين التلاميذ، قبل الذَّهاب بهم إلى الجنة والنار، أو إلى الغيب والشهادة. ثم إنَّ أخْطر الأمور التي تحْدُثُ في تدريس مقررات مادة «التربية الإسلامية» التي ينبغي تحويلها إلى «التربية الدينية»، في الإحاطة بديانات الشرق الأوسط، وبما له علاقة بها، من نصوص سابقة على الدين، بما كنتُ أشَرْتُ إليه سابقاً، ولم يُعْجِب الكثيرين، هو مناهج التدريس، وما يُعْمِلُه بعض مُدَرِّسي هذه المادة من تأويلاتٍ في النصوص، أو ما قد يُقْحِمُونَه من أفكار عامَّة، أو من أساطير وخرافاتٍ لا علاقة لها بالدِّين، مما يجعل المَنْهَج ينتفي ويغيب، والمُقَرَّر يَتِمُّ تَمْوِيهُه، أو اختزالُه في الرؤية الأيديولوجية التي يسعَى هذا المُدرِّس إلى تمريرها للتلاميذ، الذين يكونون قابِلين لتصديق كُلّ شيء يَصْدُر عن المُعلِّم، الذي هو قُدْوَة ومثال، وهو مركز المعرفة بالنسبة للتلاميذ.
سَرَّنِي كثيراً أن يُصادِقَ المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، في دورتِه الثامنة، على إخضاع التعليم الديني بالمغرب للدراسة والبحث. ما يعني، وُجود خَللٍ ما في هذا التعليم، أو وُجود أعْطابٍ، لا بُدَّ من وَضْع اليَد عليها، خُصوصاً أنَّ مدارسَنا وجامعاتنا تُعاني من هشاشَةٍ كبيرة في التكوين، وأنَّ كُل خُطط الإصلاح، باءَتْ بالفَشَل، ولَمْ تُفْضِ إلى ما ينهض بالمدرسة، أو يَضَعُها في طريق الإصلاح.
فحين يَسْهُل على الفكر المُتَطَرِّف، في فَهْمِه للدِّين، وفي ما يُسْقِطُه على الدِّين من تأويلاتٍ، وتهوِيلٍ، وتفريغ الإنسان من العَقْل، لِيُحوِّلَة إلى آلةٍ للقتْل، وإزْهاقِ أرْواح النَّاس، بلا سَبَب، فهذا معناه أنَّ المدرسَة لَمْ تَقُم بدورها، رغم ما يقضيه فيها التلميذ من سنواتٍ، ومعناه، أنَّ هذه «التربية الإسلامية»، بالطريقة التي يتلقَّاها بها، تُؤَهِّلُه ليكون صَيْداً في يَدِ الفكر الإرهابِيّ المُتَطرِّف. فثمَّة بين مُعَلِّمِي «التربية الإسلامية» من لا يُمَيِّز التيارات والاتجاهات الدينية، ولا يعرف الأسُس الفكرية التي يقوم عليها تيارٌ دون غيره، وهذا قَدْ يُعَرِّضُ، دون قَصْدٍ، إلى ترويج أفكارٍ لا يعرف خُطورَتَها، ومن بينها الفكر الوهَّابِيّ، الذي باتَ رائجاً عندنا، في كثير من الدَّعاوَى والمواقف، علماً أنَّ المغاربةَ، كانوا، دائماً، بعيدين عن مثل هذه الأفكار التي أفْضَتْ لِما نعيشه من كوارث في حياتنا اليومية، وما أصبح يُهَدِّدُنا من إرهابٍ وتطرُّف، في بيوتنا، كما في شوارعنا، وفي مدارسنا وجامعاتنا، وفي ما قد نرتادُه من أماكن عامَّة، أو خاصَّة.
نحتاج لإعادة النَّظَر في التعليم الدينيّ، كما نحتاج لربْط الدِّين بالواقع، وإخْراجِه من قَهْر الغَيْبِيات التي اخْتلط فيها الدِّين بالخُرافة والشعوذة، أو أصبح فيها الدِّين وسيلة للمُتاجَرَة والبيع والشِّراء، أو بلوغ المناصب، والتأثير في الرأي العام، الذي ما تزال نسبة الأمية فيه كبيرةً، وقابلة للاستثمار في هذا المجال.
الدِّينُ، ليس قَفَصاً يَمْنَعُنا من التحليق في الرِّيح بحرية، وبانطلاق، بل إنَّه، طريقة في الفَهْم والنَّظر، وليس قَهْراً أو استِعْباداً، أو سَيْطَرَةً على النَّاس، وإخْضاعاً لهم بالقوة، وتخذيراً لعقولهم. الدِّين هو العَقل، حين يكون العَقْل مَبْنياً على المعرفة والمنطق، وعلى القياس والمُقارنة، وتكون اللغة التي بها نُفَكِّر ونُدْلِي برأينا، لغة مُحْكَمَة، تقول الأشياءَ دون تدليس، أو تحريف. فإذا ما اخْتَلَّ اللِّسان، وأصابَه العَيّ، أو تعثَّر في قول أفكاره، فهو يكون لِساناً معتوهاً، يَلْفَظ التعابير والكلمات، دون معرفة ما تَقْصِدُه، أو ما قد يترتَّبُ عنها من نتائج.
لا يكفي أن نَمْتَلِيء حماساً للدِّفاع عن الدِّين، حتَّى دون أن نسمع الكلام، أو نقرأه إلى آخر ما فيه، وهذا هو التَّعَصُّب، أو أحد مُقَدِّمات التَّطرُّف، والاستعداد له، لأنَّ الدِّين يفرض علينا المعرفة بلغته، والمعرفة بسياقاته التاريخية، لا أن نَحْصُرَه في الإسلام وَحْدَه، ونجعلَه سِجْناً لنا، أو العَيْن الواحدة التي بها نرى الأشياء، ونجعل من بصرِنا حَسِيراً، فالأمر يفرض علينا أن نعرف ما سبق، وما تلا، وأن نصبر في قراءةِ حتَّى ما لا يتَّفِق مع الدِّين، في نقده له، لا أن نرفض معرفة فكر الآخرين، أو الاستماع إليهم، أو التَّحامُل عليهم لا ختلافهم معنا، أو عَنَّا، خصوصاً في ما يَحْدُث في سَبِّنا للشيعة، وسبِّ الشيعة لنا، أو تقسيم الدِّين إلى معتقداتٍ ودياناتٍ، وتأْلِيب المُسْلِم ضِدَّ المُسلم، كُل هذا لا يُفيد في شيء، فنحن نحتاج لمدرسَةٍ تُخْرِجُ لنا إنساناً مصيره في يَذِه، عقلُه من يقودُه، لا ما نَضَعُه على عَقْلِه من سلاسل وأغلالٍ، ثم نطلب منه أن يُفَكِر داخِل هذه السلاسل والأغلال. وهذه المدرسة، هي المدرسة التي يكون فيها الدِّين طريقاً للمعرفة، لا أن يصير هو المعرفة دون غيره من العلوم والمعارف
إرسال تعليق